قصة الجاذبية
من عصر الفلاسفة وصولاً إلى نيوتن ثم آينشتاين
قال تعالى: (أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَءلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) [النمل: 61]
يفقد رائد الفضاء الكثير من الميزات التي يتمتع بها على الأرض، لذلك فإن رواد الفضاء يصابون بأمراض تسمى "أمراض الفضاء" Space Sickness وهي أمراض ناتجة عن فقدان نعمة الجاذبية الأرضية.
حقاً إنها نعمة عظيمة ، سبحان مبدع هذا الكون.
//
gravitation
الجاذبية
هي أثر القوة الجاذبة التي تعمل بين كل أجرام الكون، وتسمى القوة الجاذبة بين جسم وكوكب والتي تسحب الجسم إلى الأسفل ثقل( weight) الجسم .
:::
تعد ( قوة الجاذبية ) إحدى القوى الأساسية الأربعة في الطبيعة ، فهناك إلى جانبها ( القوة الكهرومغناطيسية ) و( القوة النووية ) و ( القوة النووية الضعيفة ).
وعلى الرغم من أن قوة الجاذبية هي الأضعف بين هذه القوى ، إلا أنه من الطبيعي أن تكون قوة الجاذبية هي القوة التي جذبت اهتمام الإنسان قبل غيرها من القوى الأساسية ، وذلك لتأثيرها المباشر عليه وعلى محيطه المُشاهد.
وما زالت قوة الجاذبية هي أصعب هذه القوى في الفهم والتحليل والقياس حيث خضعت طبيعتها لقرون طويلة من الدراسات والقياسات ، وما زالت إلى يومنا هذا تشغل قدراً كبيراً من جهود الفيزيائيين وتحرياتهم .
وعبر تاريخ البشرية الطويل نجد أنّ هناك مراحل مفصلية وركائز أساسية تصنع منطلقات لرؤى جديدة ، وتطور المدارك والمفاهيم ، وتساهم في اكتشاف السنن الكونية . ولقد تأمل الفلاسفة اليونانيون القدامى في آفاق محيطهم ليخلصوا إلى أن الأرض تتكون من أربعة عناصر وهي : التراب والماء والنار والهواء .
وجاء الفيلسوف الإغريقي أرسطو (ت322ق .م) في مرحلة لاحقة ليضيف إلى هذه التركيبة عنصراً خامساً ظنّ أنه العنصر الذي تتكون منه السماء ، وأطلق عليه اسم (الأثير) .
أما ( حركة الأجسام ) في الطبيعة ؛ فعلى الرغم من أنها ظاهرة قديمة قدم الكون نفسه ، إلا أن الإنسان لم يتمكن من اكتشاف القوانين التي تحكم هذه الحركة وتفسر سلوكها إلا منذ ما يقارب الأربعة قرون فقط ، وذلك بالرغم من جهود الفلاسفة والمفكرين على مدى قرون سابقة ، ولكنها لم تؤت ثمارها كما ينبغي لأنها شغلت نفسها بأسئلة غير قادرة على توليد إمكانات الإجابات الصحيحة ، فشغل الفلاسفة اليونانيون أنفسهم بالسؤال : ( لماذا تظهر الحركة في الأجسام ؟) ، وكانت الإجابة من طبيعة السؤال ؛ فانطلاقاً من مفهوم العناصر الأربعة التي تتكون منها الطبيعة ، واستناداً إلى ( الفلسفة العضوية ) المبنية على ( الغائية ) حيث إن لكل شيء غاية ، اعتقد أرسطو أن الأجسام تتحرك باحثة عن مكانها الطبيعي في الكون ؛ فالأجسام الثقيلة ، التي تتكون أساساً من التراب والماء تسقط نحو الأرض ، وأما الأجسام الخفيفة ، مثل الدخان والسحب ، فإنها ترتفع إلى أعلى لأن مكانه الطبيعي هو السماء .
وانطلاقاً من تلك الرؤية العضوية فإن حركة الأجسام وفق تصور أرسطو ، تنحصر في اتجاهين فقط : إما إلى أعلى وإما إلى أسفل ، وتنجم خاصية السقوط والارتفاع عن خاصية الأجسام نفسها ولا علاقة لها بأي مؤثرات خارجية مثل الأرض أو غيرها ، ولذا فإنها تهوي نحو الأرض بتناسب طردي مع وزنها ، فلو ألقينا جسمين مختلفي الوزن من مكان عالٍ ، فإن الأثقل منهما يصل إلى الأرض قبل الأخف ، وبسرعة تتناسب مع وزنه .
أما الأجرام السماوية فقد اعتقد أرسطو أنها محكومة بقوانين تختلف عن القوانين السارية على الأجسام الأرضية ، فالأجرام السماوية في رأيه : هي أجسام مثالية تنتمي إلى عالم الكمال ، ولذا فإن حركتها ينبغي أن تكون حركة دائرية ؛ لأنها تتميز بالكمال ، وأما الأجسام الأرضية فإنها جزء من عالم قاصر غير كامل ؛ ولذا فإنها تتحرك في خطوط مستقيمة ، فالخط المستقيم نمط من أنماط الحركة المحدود، وهذا يليق بالعالم القاصر .
لقد كان لعلماء المسلمين اهتمامات واضحة بـ ( علم الحركة ) الذي أطلقوا عليه اسم ( علم الحيل ) ، واشتملت جهودهم على تجارب مفيدة وملاحظات صائبة في طبيعة حركة الأجسام وصناعة الآلات المتحركة بنفسها أو بجهد يسير .
وكان من أبرز العلماء المسلمين في هذا المجال الحسن بن الهيثم (ت1039م)، والشيخ الرئيس ابن سينا (ت1037م)، وأبو الريحان البيروني (ت1036م)، وهبة الله بن ملكا البغدادي (ت1156م).
//
التغيّر الجذري في الفكر البشري :
إنّ التغير الجذري الذي طرأ مع بزوغ الثورة العلمية في القرن السابع عشر الميلادي ، انطلق من تغيير صيغة السؤال فبدلاً من أن يكون فلسفياً ( لماذا تتحرك الأجسام ؟)، فإنه تبنّى صيغة علمية دقيقة ليصبح ( كيف تتحرك الأجسام ؟)، وبذلك نهج منهجاً كمياً يعتمد على القياس والتجربة ، وصياغة النتائج في قوانين رياضية منضبطة ، ليرسي بذلك القاعدة الصلدة لـ ( المنهج العلمي ) الذي استطاع في أقل من أربعة قرون أن يغير أنماط الحياة ومعالم الأرض ، ويجوب آفاق السماء ، ويتلمس رحاب الكون .
إنه من الواضح أن السؤال العلمي (كيف؟) أكثر تواضعاً من السؤال الفلسفي (لماذا؟)؛فبإمكان أيّ شخص أن يلجأ إلى ما يتوفر لديه من أدوات قياس لإجراء تجارب على ( الحركة ) وغيرها من الظواهر الطبيعية ، ومهما كانت هذه القياسات بدائية ومحدودة فإنها كفيلة بإعطاء بعض الإجابات – وإن كانت جزئية – عن كيفية تلك الظاهرة وبعض عناصرها المؤثرة .
كانت التجربة الأبرز في هذا المضمار من نصيب العالم الإيطالي جاليلو جاليلي(ت1642م) الذي استطاع أن يجتث ( فيزياء أرسطو)، من جذورها على الرغم مما جابهه من صعاب ومعوقات ليس أقلها استعداء الكنيسة عليه ، مما قاده في نهاية حياته إلى الإقامة الجبرية بحكم الكنيسة التي وجدت في أعماله ونتائجه خروجاً صريحاً على المبادئ الكنسية.
لقد أجرى جاليلي تجربته الشهيرة المعروفة باسم ( المستويات المائلة ) لاكتشاف طبيعة ( السقوط الذاتي الحر ) للأجسام ، فقد كانت الحقيقة المشاهدة أن الأجسام تسقط إلى أسفل عند إفلاتها من علوّ ، وتزداد سرعتها مع الزمن ، وتتناسب هذه السرعة طرياً مع كتلة الجسم . فالأجسام الثقيلة تكتسب سرعة أكبر من الأجسام الخفيفة أثناء سقوطها نحو الأرض .
وكان تعليل أرسطو لتفسير تلك الظاهر : أنه كلما زادت المادة الترابية في الجسم كان أكثر شوقاً للعودة إلى وضعه الطبيعي وبلوغ غايته على سطح الأرض!
لم يرق ذلك التعليل الفلسفي لجاليلي ؛ فانصرف إلى إجراء تجارب عملية للتأكد من كيفية ( السقوط الذاتي ) ووضعه في إطار علمي دقيق ، ولو أنّ جاليلي لجأ إلى إسقاط الأجسام رأسياً من منطقة عالية وقياس زمن سقوطها ، لما تمكن من الخلوص إلى نتيجة عملية بسبب قصر الزمن الذي يستغرقه الجسم في السقوط رأسياً ، فعلى سبيل المثال لو أن جاليلي لجأ إلى أعلى مبنى في إيطاليا في ذلك العصر(برج بيزا)، وألقى بأجسام ثقيلة من ذلك الارتفاع لما استغرق زمن السقوط أكثر من أربع ثوان.
ولذا احتالت عبقرية جاليلي على تلك الصعوبة ؛ فقام باستخدام كرات ثقيلة نسبياً متساوية في الحجم ومختلفة في الوزن وناعمة الملمس لتقليل أثر الاحتكاك ، وقام بدحرجتها على مستويات ملساء مائلة تتغير زاوية ميلها مع الأفق من تجربة إلى أخرى وذلك لزيادة زمن السقوط ، واستطاع بذلك قياس المسافات المقطوعة والأزمنة المستغرقة لزوايا متعددة للمستويات المائلة ؛ ليثبت بالحساب والقياس عدم اعتماد سقوط الأجسام إلى الأرض على طبيعة الجسم أو وزنه فكل الأجسام تزداد سرعتها عند سقوطها بالقيمة نفسها ؛ أي أن لها التسارع نفسه الذي حسبه جاليلي ليجد أنه يساوي (9,8 م/ث^2 ).لقد كان لتلك التجربة التاريخية دلالات عميقة على الصعيد المنهجي والفهم العلمي لطبيعة الحركة ، وكانت مدخلاً لفهم وتفسير الظواهر الطبيعية المختلفة وفق الفكر والتحليل الميكانيكي ، ومهدت السبيل للرواد العمالقة من بعده ، وهذا ما حدا بالفيلسوف الألماني إيمانويل كانط ليعلق فقال :" عندما قام جاليلو بدحرجة كراته على مستوى مائل تفجّر نور جديد على كل الباحثين المهتمين بدراسة الطبيعة".