البـريد الوارد من العراق وفارس مئات الرسائل إلى عمر رضي الله عنه ..
فطفق يطــالعها واحدة واحدة .. وكان رضي الله عنه قارئاً كاتباً .. يملي رسـائله بأسلوب عجيب، ويرد على كثير من الرسائل بخط يده ..
رســـــالة واحــــدة ..! من بين الرسـائل أعجبت عمــر ...!!!
واستـوقفته مليــــاً ..!
كانت الرسالة من ( النعمـان بن مقرن – رضي الله عنه) يقول فيها بعد المقدمـة :
( لقد وليتني يا أمير المؤمنين إمارة كسكر فحولتني من محارب يطلب الشهادة، إلى حاكم تغويه الإمارة وتفتنه الجباية، فنــاشدتك الله يا أمير المؤمنين لما أنقذتني من هذه الفتنة فإنما مثلي ومثل كسكر كمثل رجل شاب إلى جنبه مومسة تلون له وتتعطر ..
أنشــدك الله يا أمير المؤمنين أن تعزلني من الإمارة وتبعثني إلى جيش من جيوش المسلمين مقاتلاً لعلي أنال ما أملته من الشهادة في سبيل الله منذ آمنت بمحمد صلى الله عليه وسلم ) أ.هـ
واستعاد عمر رضي الله عنه في ذاكرته صفحــات معطرة من سيرة هذا البطل الصالح المجاهد منذ قدم هو وأخوانه على رسول الله في وفد مزينة فأعلنوا اسلامهم قبيل الأحزاب وكيف برز اسم النعمان رضي الله عنه في كل غزوة منذ الأحزاب وكيف سجل إخوته سويد ونعيم ومعقل أروع صفحات البطــولة .. في حروب الردة وما بعدها ..
لكن عمر كان مثقل القـــلب بالأحزان لكثرة ما قتل من عساكر المسلمين في تلك الأيام وكان الذي يؤلمه أن المسلمين كانوا يقتلون بأعداد كبيرة وبغير مقابل ..
لقد فقد المسلمون في القادسية قرابة ثمانية آلاف وخمسمائة شهيد لكن كان يسره أن الله حقق النصر أو الشهادة لكل من شهد القادسية ..
أما في نهاود الآن فقد حشد كسرى يزدجر مائة وخمسين ألف مقاتل يقودهم عظماء قادة الأعداء وقد حفروا حول المدينة خنادق وأحاطوها بكلاليب الحديد فما تكاد فرس المسلم تهوي حتى تنشب فيها كلاليب الحديد كالحسك فتقف مسمرة ليقتل الفارس والفرس ..
تألم عمر رضي الله عنه لأخبار القتال وولى القيادة أبطالاً قتلوا واحداً بعد واحد وأخيراً جمع أهل الرأي من حوله وفيهم عثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص واستشارهم أن يقود الجيش بنفسه لعل الله يحقق على يديه النصر أو يكرمه بالشهادة لكن هذا الرأي لم يلق موافقة من أصحاب رسول الله وعندئذ قال عمر :
( لقد آن أن نحقق رغبة القـــائد المنتـــظر لأنه عودنا طول حياته ألا يسمح لأحد أن يسبقه إلى الموت ..)
ثم قال للصحابة: لقد وجدت القائد المنشود إنه النعمــان بن مقرن ..
وعنئذ صاح الصحابة بلسان واحد : هـــو لها .. هـــــو لها .. اعقد له على بركـة الله ..
وفي الحال كتب عمر إلى النعمان يعقد له لواء القيادة ويوصيه بالمسلمين وبتقوى الله وكثرة ذكر الله وبخاصة قول: ( لا حول ولا قوة إلا بالله لأنها من مفاتيح الجنـة )
وكم كانت فرحة النعمان بهذا الخبر لا لأنه تقلد القيادة ولكن لأنه ستتاح له الشهادة ..
ســار النعمان صوب نهاود .. فتكامل جيشه ثلاثين ألف مقاتل .. كلهم حريص على الشهادة مشتاق لها شـوق الظمــآن للبارد العذب ..
ولما تراءى الجمعان وجد المسلمين مقابلهم عظماء قادة الفرس يتقدمهم (فيرزان – ورزدق) ومعهم مائة وخمسون ألفاً وقد ربط كثير منهم جماعات بالسلاسل حتى لا يكون أمامهم إلا القتــل أو النصر ..
وحط النعمان أثقاله فتسابق أجلاء الصحابة يبنون خيمته لا لأنه قائد بطل فحسب ولكن لأنه صحابي له اجلاله ومحبته ..
وعندما رأى النعمان تحصينات العدو وحيلة الكلابيب استشار اصحابه فقال الصحابي الجليل طليحة الأسدي :
أن نحتك بهم ونهاجم أطرافهم ثم نتظاهر بالفرار حتى إذا كادوا يدركوننا التففنا من ورائهم وأوقعناهم في مصيدتنا
أعجبت الخطة النعمان ..فبدأ المسلمون بالتطبيق وكان يوماً مشهـــوداً تساقط فيه المسلسلون بعضهم فوق بعض ثم استحر القتلى في السادة من العدو .. وهنا حصلت ثغرة في جيش المسلمين سدها النعمان وهو يهتــف بأعلى صوته: يــا أهل القرآن لا تفتكم إحدى الحسنيين .. اللهم لا تردني خائباُ واكتب لي الشهادة في سبيلك ..
ورى المسلمون النعمان وقد لبس البيــاض ليكون واضحاً لأصحابه..
وتســــــابق الجميع إلى الشهادة حتى لقد قال أحدهم : ( والله ما علمت أحداُ من المسلمين كان يفضل أن يعود إلى أهله إلا شهيداُ أو ظافراً ولكن الله يختص بالشهادة من يشاء )
ولما خمد غبار المعركة تكشف عن آثار رحمة الله عن جثث أربعة آلاف من شهداء الإسلام وعشرات القتلى من جيش العدو ..
وفي مقدمة الجيش إذا فرس القائد النعمــان بن مقرن ملقي على الأرض والدم ينبع من خاصرته وقد أضاء وجهه نور الشهادة .. فأقبل عليه حذيفة بن اليمان وسويد بن مقرن يلفانه في ثوب ويبشران الجيش بانتصار جيش الصحابة وأن الله حقق لقائدهم أمنيته بالشهادة ..
وانطلق البشير إلى عمر بالنصر فكان أول سؤال سأله :
وكيــف النعمان ؟؟
فقال البشير : ظفر بالشهادة بعد أن تنزل النصر ... فبــكى عمر حتى سمع نشيجه ..
فهنــاكـ على مشـارف نهاود :: شـذاً عجيباً تستروح من عطره شذى الإيمان وبشاشة القرآن من أجسام طالما بكى أصحابها في جوف الليل من خوف الليل ..
نضر الله تــلك الأرواح والأجسام .. عليها وعلى أيامها الماجدة أزكــى السـلام ..